بسم الله الرحمن الرحيم
إن النصوص الشرعية متضافرة على فضل أول هذه الأمة مثل قوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100)، وقوله تعالى( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (الحديد:10 )، وكما في السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما هو في الصحيحين أو أحدهما من قوله: ( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم... ) وقوله ( : والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )وغير ذلك من الأحاديث. وكقول ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد: فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد... وقول ابن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، أي فليتبعهم ويعمل بما عملوا به، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم. وفي فتح الباري لابن حجر : قوله: ثم الذين يلونهم أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون ثم الذين يلونهم وهم أتباع التابعين واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين. لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن أفضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم واتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقي عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده كائناً من كان لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده فظهر فضلهم على باقي هذه الأمة فالأصل في ذلك قوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (الحديد:10 )، أما من لم يحصل له من الصحابة إلا مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط دون القيام بأي من الأعمال المذكورة أعلاه فأفضليته على من جاء بعده محل خلاف ونزاع. لكن هناك إشتباه في أفضلية أي الزمانين أوله أو آخره بسبب بعض النصوص الشرعية كحديث (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم أخره) وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، قال النووي بما خلاصته أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم عليه السلام ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام ودحض كلمة الكفر فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني والله أعلم. ويُمكننا القول أن أول الزمان له أفضلية على آخره لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من صحبة النبي عيسى عليه السلام بسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء وسيد بني آدم جميعهم، وكلاهما خير لما فيهما من صحبة الأنبياء عليه السلام مما يجعل لهما أفضلية على غيرهما من أزمنة هذه الأمة. وروى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة يا رسول الله (أأحد خير منا اسلمنا معك وجاهدنا معك، قال قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني). وإسناده حسن وقد صححه الحاكم واحتج أيضاً بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على آذاهم وتمسكهم بدينهم قال فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضاً عند ذلك غرباء وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة في الحديث المرفوع (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء). ولكن هناك رواية أخرى لحديث أبي جمعة بلفظ (قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً) أخرجه الطبراني وبإسناد أقوى من إسناد الرواية الأولى لحديث أبي جمعة بلفظ الخيرية كما تقدم.
وأما حديث أمتي كالغيث فقد قال فيه شيخ الإسلام: وأما قوله: (أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره). مع أن فيه لينا فمعناه: في المتأخرين من يشبه المتقدمين ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة لا يدري الذي ينظر إليه أهذا خير أم هذا؟ وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيراً. فهذا فيه بشرى للمتأخرين بأن فيهم من يقارب السابقين كما جاء في الحديث الآخر: (خير أمتي أولها وآخرها. وبين ذلك ثبج أو عوج. وددت أني رأيت إخواني قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي). هو تفضيل للصحابة فإن لهم خصوصية الصحبة التي هي أكمل من مجرد الإخوة... انتهى.
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليدركن المسيح أقواماً إنهم لمثلكم أو خير ثلاثاً ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها ). وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه (تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل منهم أو منا يا رسول الله قال: بل منكم) وهو شاهد لحديث: (مثل أمتي مثل المطر). وقد ذهب الجمهور إلى أن حديث ( للعامل منهم أجر خمسين منكم ) لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجرة لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضاً فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة والصحبة والمشاركة في إقامة الدين فلا يعدله فيها أحد فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة. وبناءاً على ذلك يُمكننا القول بأن الزيادة في الأجر لمن جاء بعد الصحابة لا تَمنحهم أفضلية على الصحابة وإنما تَرفع منازلهم عند الله عزوجل فقط، لأن كل أجر وثواب ينالونه على أي عمل يبذلونه لنصرة الدين وإن كان مُضاعفاً فإن الصحابة ينالهم مثل هذا الأجر المُضاعف لقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا )، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق